الأحد، 17 مارس 2013

إكتسب مصطلح الدولة مفهوماً فلسفياً ودلالة تاريخية


إشكالية التكوين

إكتسب مصطلح الدولة مفهوماً فلسفياً ودلالة تاريخية أصيلة في التراث الإنساني، وأصبحت ـ الدولة صورة للجماعة الانسانية، ودلّت في الغالب على جماعة سياسية أو كيان سياسي حظيا خلال صيرورتهما التاريخية بصور متنافرة بما أسبغ عليها إهتماماً فريداً من لدن العلم التاريخي ومن ثم الفلسفة السياسية التي نزعت إلى تفسير ظاهرة نشوء الكيانات الإتحادية وصولاً إلى نشوء الدول على أساس تلك العلاقة الفريدة والثابتة بين جماعة وإقليم معينين.

يرشدنا التراث السياسي الإنساني إلى أن الدولة صدرت في منشأها عن فكرة باتت شائعة في علم السياسة الحديث، وهي أن الجماعة السياسية ذات صفات عامة تتجاوز الحيز الزمكاني كونها ـ أي الجماعة ـ تتّخذ سيرورة نمو وتغيّر في مجرى التاريخ، وهذا ما فرض جهداً بحثياً لجهة توصيف الكيانات الإنسانية الحديثة في حالة الثبات. إن الدولة من حيث كونها ظاهرة عمومية هي نوع من الفعالية التي تفرض نفسها على الإنسان كضرورة، وأن ثمة وجوهاً ثابتة لهذه الفعالية تخلق علاقات مستقرة بين الكائنات البشرية والمصادر الطبيعية أو الثروة التي تملكها، وهي بدورها تخلق وحدة أو أساس وحدة بين فئات المجتمع. فالدولة تصبح في مثل هذه الحالة غائية، أي أن أصل نشأتها ووظيفتها قد تقررت وفق توافق ضمني بين الكائنات البشرية على صياغة علاقة ثابتة بينها وبين الطبيعة بمحتوياتها داخل إطار الإقليم المعين الذي تعيش بداخله.

إن غائية الدولة فرضت شكلاً محدداً للحكومة، أي طاعة وامتثال بين أفراد الدولة، بما يجعل الأخيرة إطاراً حصرياً من حاكمين ومحكومين يقيم علاقات منتظمة بين البشر والأشياء، وهذا التعريف يوفّر الحد الأدنى والتبسيطي من توصيف الدولة، باعتبارها نوعاً خاصاً من الفعالية البشرية.

ومن هنا يأتي إختبار صحة الأغراض التي تسعى إليها الدولة والوسائل التي تستعملها، من خلال طائفة من المفردات من قبيل: طبيعة النظام الإجتماعي المراد تحقيقه، وصورة الحكومة المناسبة، ومستوى الرضا الذي تتوصل إليه الدولة في علاقاتها مع خارج الجماعة التي تنضوي بداخلها.

الدولة، بهذا المعنى المشار إليه هنا، لا تكتسب صفتها وشرعيتها من مجرد إحلال النظام محل الفوضى فحسب، بل وأيضاً من خلال إرساء نظام صحيح، حقيقي، وعادل بدلاً من نظام خاطىء، غائم، وإستبدادي، وهذا ما يميّزها عن نماذج التجمع البشري الأخرى التي اضمحلت، إلى حد كبير، في مجرى التاريخ.

 لقد ميّز أرسطو بين الصورة النموذجية لحكومة جماعة وصورة بيت ـ أسرة، ثم طوّر جون لوك هذا التصوير لينفي الفكرة الشائعة حينذاك بأن الجماعة السياسية ما هي إلا توسّع الأسرة، حيث أن السلطة السياسية لدى لوك ليست من طبيعة أبوية، وهذا ما أتاح مجالاً واسعاً للتمييز بين الجماعة السياسية والجماعة الدينية. وجادل هوبز بأن السلطة الدينية الكهنوتية، في جوهرها، ليست من طبيعة سياسية، كونها لا تمثل صورة حكومة أو إمرة تقوم على الهيمنة والقهر، وإنما هي صورة تربية وإقناع، وبالتالي فمن غير الممكن مطالبتها بأولوية على الدولة، بل على العكس من ذلك، فإن المذاهب الدينية إنما اكتسبت قوامها السياسي بدعم الدولة ذاتها.

وقد ساهم اندلاع الثورة الفرنسية والثورة الصناعية في القرن التاسع عشر الميلادي في إنتاج حقائق جديدة على الأرض عكست نفسها في مجال التنظير السياسي، وطوّرت تبعاً لهذا التحول الكبير في أوروبا مفهوم الدولة. فلم يعد المجتمع يمثّل الإتحاد السياسي بين كائنات بشرية من جانب الدولة، بل غدا شبكة من التفاعلات والمبادلات أقامها أفراد يضعون موضع العمل حقهم في السعي إلى تلبية حاجاتهم الخاصة، كل منهم بطريقته، ومن هنا بدأت فكرة المجتمع المدني، الذي يدير ذاته بذاته كما صاغها هيجل.

وقد صار ثابتاً بالضرورة أن شمولية الدولة الحديثة تتحدد من خلال إعادة إدماج المجتمع، بما هو جملة من الفعاليات التلقائية، في بنية الدولة بدلاً من تحريره منها، وحيث تكون الدولة تابعة لحزب أو أسرة تقترب إلى حد ما من نموذج الحركة الدينية التي يرأسها أب من نوع ما.

ومع أن منظري الدولة يشترطون درجة زائدة من الهيمنة وإحتكار القوة للجهاز الحاكم من أجل ترسيخ كيان الدولة واكتساب المشروعية، فقد اضطروا للتمييز بين نوعين: الهيمنة (hegemony) والسيطرة (dominance) من أجل وضع حد فاصل بين الدولة كظاهرة قهرية إكراهية غاشمة والدولة بوصفها ظاهرة انسانية تتطلب درجة من القوة والهيمنة تفوق باقي مصادر القوة في المجتمع كمتطلب إستمرار وضبط.

بالنظر إلى ماسبق، فإن الدولة السعودية واجهت إشكالية تكوينية منذ مرحلة مبكرة، فهي لم تقرر اكتساب مصدر مشروعيتها من خلال توافق أو سلسلة توافقات بين الجماعات البشرية، وإنما لجأت منذ نشأتها إلى القوة الاكراهية الغاشمة كمبرر وجود واستمرار. فالدولة السعودية لم تنشأ بصورة طبيعية، أي كإفراز لنمو وتغيير داخلي ولا حتى كحاصل جمع لتراكم تاريخي لجماعة معينة، وإنما برزت في المرحلة الأولى كظاهرة إنشقاقية في المجتمع النجدي ثم إستحثها الإنتصار العسكري في نجد إلى مد ذراع سيطرتها إلى المناطق المجاورة دون النظر إلى إمكانية تحقق ذلك فعلياً.

إن سلسلة الغزوات التي تعرضت لها مناطق عديدة من الجزيرة العربية والتي شكّلت فيما بعد مكوّنات الدولة السعودية أفضت إلى قيام كيان جيوسياسي موحّد العام 1932، يصعب توصيفه بالدولة، باعتبار أنها لم تنبعث من إرادة جماعية ولم تنبثق من إقليم موحد قرر طوعاً أن يكون جزءً من الكيان الجديد، فضلاً عن أن تكتسب ـ أي الدولة السعودية ـ صفة التمثيل المؤسسي لإرادة الشعب. فقد كانت القوة الغاشمة وحدها الوسيلة القسرية لعمليات إلحاق متسلسلة إستهدفت إقامة كيان سلطوي تابع لأسرة.

إن ما نبذه هوبز في تفريقه بين الجماعة السياسية والجماعة الدينية قد تحقق في السعودية ولكن بطريقة مشوّهة، فأخرجت للنور دولة هجينة تتوحد في أبوية من نوع مختلف ذات طبيعة دينية وسياسية. إن هذا المركب (الديني السياسي) صنع سلطة أبوية لا ينازع فيها الديني السلطة السياسية في اتخاذ القرارات المتّصلة بمصالح الطبقة الحاكمة إستناداً على سلطة الدين ولا ينازع فيها السياسي السلطة الدينية في إتخاذ القرارات المتصلة بتعميم المعتقد وقلب المعتقدات إستناداً على سلطة الدولة.

فقد بقي مسمى الدولة قائماً تبعاً للشكليات المعمول به في المحافل والمؤسسات الدولية والعلاقات الدبلوماسية ولكن، في جوهرها، لم تتجاوز حد السلطة القهرية الأبوية التي يتحالف فيها الملك والمفتي كرمزين للمؤسستين السياسية والدينية في تحقيق أغراض خاصة وبوسائل خاصة. وهنا تبدو القطيعة واضحة بين المجتمع والدولة الممثلة لإرادته، فلا إرادة شعبية فعلية ولا متخيّلة يمكن أن تقوم مقام تظافر إرادتي السياسي والديني.

لقد كانت السلطة الدينية تضاهي السلطة السياسية إن لم تكن قد تفوقت عليها في بعض المراحل كما حصل في الدولة السعودية الأولى والثانية وإلى ما قبل قيام الدولة السعودية الحديثة، وبالتالي كانت لها اليد العليا في تقرير مصير المجتمع ومصالحه، ولكن إعلان الدولة السعودية سنة 1932 واستكمال شروط قيام السلطة السياسية أضفى على الأخيرة قوة هائلة، أخذت في التعاظم تدريجياً مع تمأسس السلطة وتشكيل الوزارات التي أفضت إلى انخفاض البعد السياسي للسلطة الدينية مع تبلور البعد الديني للسلطة السياسية.

إن التحولات الشكلية في بنية السلطة لم يبدّل نظرة أهل الحكم إلى الدولة، باعتبارها إمتيازاً مقفلاً واحتكارياً للأسرة الحاكمة، وهو ما مهّد لتمدد لا محدود للجهاز البيروقراطي على حساب المجتمع وتكويناته، الأمر الذي سمح بنشوء ظاهرة الاستزبان السياسي داخل جهاز الدولة، وهي ظاهرة تقوم على تشكّل حلقات مصالح داخل الدولة تكون مرتبطة بالأسرة الحاكمة، تفضي إلى إعاقة حركة الدولة والمجتمع.

في النظم السياسية الحديثة، وفي الغرب على وجه التحديد، جرت عملية إنسحاب تدريجي للحاكمين لحساب المحكومين في إطار عملية إعادة الحقوق والوظائف لصاحبها الأصلي، أي المجتمع، دون ـ أن ينال ذلك الانسحاب من هيبة الدولة واستقرارها وتماسكها الداخلي، وكان الهدف بصورة رئيسية من ذلك الإنسحاب تحسين أداء الدولة وتنظيم المصالح العمومية، فتطابقت الدولة مع أهدافها الأصلية التي من أجلها تشكّلت كما رسم لها منظرو الدولة الأوائل حين قرروا وظائف محددة للدولة لا تحيد عنها ولا تتجاوزها، فأصبح للدولة دور محدد متمثلاً في تنظيم المصالح العمومية، ودرء المفاسد، وحماية الأعراض والممتلكات من التعدّي الداخلي أو  العدوان الخارجي، والأهم من ذلك تمثيل الإرادة الشعبية.

على الجبهة المعاكسة، تقبع الدولة التسلطية كما يصفها خلدون النقيب، حيث العمل الدؤوب على تسلل الحكومة إلى جميع مرافق الدولة وإطالة ذراعها إلى المصالح العمومية، إلى حد مزاحمة الناس في أرزاقها، ولقمة عيشها، بل وتفكيرها. فلم يعد هناك ما يفصل بين ما هو خاص بالحكومة وما هو عام للمواطنين، وكل ذلك لأن ولاة الأمر ينظرون إلى الدولة بجميع مكوّناتها ومقوماتها ملكاً خاصاً وإمتيازاً فريداً لهم، وبئراً نفطياً ينعمون به ويقتسمونه فيما بينهم ويسترضون به من عاضدهم أو تحالف معهم في إنجاز مهمة السيطرة والنفوذ.

فالدولة لم تعد، إذن، هي التمثيل المؤسسي للمجتمع ولا أداة لتنظيم المصالح العمومية وقوة رادعة للطامعين سواء في الداخل أو الخارج، بل تحوّلت بفعل اختلال الوظائف المرسومة لها في الأصل إلى أداة لتعطيل المصالح وقوة قامعة في الداخل وهشّة أمام الخارج، ولا غرابة، والحال هذه، أن تسمع قصصاً تنال من كبار الأمراء حول السيطرة على عقارات عامة وخاصة، من قبيل نزع ملكية أراضٍ، ومصادرة بستان هنا ومزرعة هناك، أو المشاركة الإقحامية في هذه التجارة، وهذه القصص تتكرر على ألسنة المواطنين من غربه إلى شرقه.

والسبب في ذلك كله، أن الدولة ليست منفصلة عن الحكومة، والأخيرة شيء من أشياء الدولة، التي هي بكامل حمولتها  إمتياز خاص بعائلة أو قبيلة أو حزب، ولنفس السبب يكون مصير هذه الحكومة والدولة ملتحماً بمصير العائلة، ولنفس السبب أيضاً تكون الوحدة الوطنية مهدّدة سيما إذا كانت الدولة، مثل السعودية، حيث التعددية فيها تمتد من اللهجة والزي وتمرُّ بالمذهب والثقافة والعادات الإجتماعية وتصل إلى التطلع السياسي، وحيث عملية الإندماج السياسي الحقيقي لم تتحقق حتى في حدودها الدنيا، فحينئذ تقف الدولة وجهازها الإداري أي السلطة على طرفي نقيض مع باقي فئات الشعب المتضررة من الدولة والسلطة فيها. ومن هنا يصح القول بأن الدولة نشأت على تضاد مع مصالح المجتمع. 

والمفارقة المثيرة للجدل دائماً، أن الدولة لدينا تتمتع بكونها (قوية) و(تسلطية) لا بمعنى أن هذه الخصائص كافة كامنة في الدولة حكماً، ولكن بالمقارنة مع وبالنظر إلى ضعف القوى الإجتماعية، ولكن القوّة والتسلطية يجري إستعمالهما والتلويح بهما في مواجهة المحكومين وليس من أجل مواجهة التهديدات القادمة من خلف الحدود، فتلك مهمة أوكلت إلى الآخر ـ الخارجي.

إن قوة الدولة وتسلّطها نابعان، في حقيقة الأمر، من كونهما أكثر تغلغلاً واقتحاماً في الشأن العام من أي قوة إجتماعية أخرى، فهي التنظيم الأكثر تضخّماً وسيطرة على منابع الثروة والسلطة، وهنا مكمن الخطورة. فالدولة بتغلغلها تزيد من إلتزاماتها، وضغوطها وتالياً تثير السخط الشعبي حين تعجز عن الوفاء بالتزامات فرضتها على نفسها.

كانت الدولة التسلطية أمام فرصة تاريخية لأن تعيد تشكيل نفسها، والتخلُّص من أعبائها القديمة، وبالتالي إجراء عملية إصلاح جوهرية مأمونة العواقب من خلال التحرر تدريجاً من مهماتها الإضافية، ولكن الإصرار على إبقاء القبضة الحديدية على السلطة حرم النظام السياسي من فرص كان فقيراً إليها. فمع استكمال بناء مؤسساتها ثم دخولها في برامج التنمية الشاملة، كانت السلطة قابلة للتحوّل إلى دولة حتى وإن اقتضى الأمر نقل جزء كبير من المسئوليات والامتيازات إلى الشعب، وبالتالي إجراء عملية دمج حقيقية للشعب في العملية التنموية في بعديها السياسي واإقتصادي. ويتطلب ذلك إرساء أساسات جديدة يكون فيها الشعب قادراً على تشكيل مؤسساته الخاصة. فحين بدأت بوادر الأزمة الإقتصادية في بداية الثمانينات كانت السلطة السياسية أمام فرصة أخرى من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه لتجنيب البلاد والعباد أزمات خانقة تهزّ بشدة قواعد الإستقرار في الدولة.

أخذت سيرورة الدولة السعودية منذ نشأتها عام 1932 شكلاً تصاعدياً مدفوعة بنزوع متزايد نحو إحكام السيطرة على المجال العام، تجاوزت معه حد الإطار الوظيفي للدولة كآلية لتنظيم المصالح العامة ودرء المفاسد بأشكالها كافة. ومن الناحية النظرية، أملى منطق التطوّر على قيادة الدولة الإستجابة للحاجات المتزايدة للمجتمع والدولة لإنشاء أجهزة جديدة قادرة على استيعاب الظروف والحاجات المتجددة. فبعد أن كانت الدولة تدار من قبل وزارة المالية أصبحت، بمرور الوقت، بحاجة إلى جهاز بيروقراطي وواسع، أي منظومة أجهزة ذات تخصّصات متنوعة تتعامل مع قضايا المواطنين بقدر أكبر من التنظيم والكفاءة الإدارية. وهذا تطور طبيعي وضروري من أجل الإحتفاظ بكيانية وصدقية الدولة بما هي جهاز رعاية مصالح، إلا أن ما نجم عن تلك العملية هو أن درجة الحكومة، أي درجة تغلغل السلطة السياسية في الشأن العام، تفشّت بوتيرة متمادية السرعة فأضرّ ذلك بالهدف الأساسي من أصل نشأتها والوظيفية الرئيسية التي قررت لها. فالتمدد اللامحدود للسلطة إلى حد اختراق مجال التفكير عند الأفراد أحال الدولة إلى جهاز بيروقراطي ضخم يتكوّم فيه عدد لا محدود من الأفراد يمارسون أدواراً ثانوية ويخضعون لدورة عمل روتيني مكتبي بصورة واسعة النطاق.

إن التضخم المتزايد في الجهاز البيروقراطي للدولة أحال من الأخيرة إلى جسد مترهل، ينوء بأعباء تفوق قدرتها على التحمل. إن الإحساس المتعاظم لدى الفئة الحاكمة بضرورة وضع الدولة بأجهزتها كافة تحت السيطرة، جعل تمدد الدولة يطال حتى المؤسسات التي كان بالإمكان تحويلها إلى مؤسسات خاصة، والإكتفاء بالمؤسسات التي تحفظ النظام وتحقق قدراً كافياً من الأمن والإستقرار.

ولكن ما حدث، أن اختراقاً واسعاً جرى من قبل الدولة للمجال العام مستوعباً المناشط كافة، ثم تدخَّل عنصر التنافس الشديد والمحتدم داخل العائلة المالكة على السلطة ليعزز نزعة التمدد، حتى بات معروفاً أن الوزارات والمؤسسات العامة تكون إما خاضعة مباشرة للأمراء أو لممثلين عنهم، والسبب في ذلك هو أن الدولة منذ نشأتها كانت محمّلة بنزعة التسلط.

وكرد فعل على هذا التورّم البيروقراطي غير الحميد كانت النتيجة الطبيعية نشوء عدد متزايد من السياسيين بما ضاعف من المطالب على الجهاز السياسي. بمعنى آخر، ضاعف تضخّم الدولة من مسئولياتها، وكذلك من ضغوط المواطنين عليها، وبالتالي فإن تزايد توقّعات المواطن من الدولة العاجزة عن تلبية هذه التوقعات أسفر عن مستوى خطير من الصراع والذي بات في نفس الوقت بدرجة من التعقيد بحيث أصبح من العسير جداً تسويته أو حتى إدارته.

الدول القائمة على أساس ايديولوجي، أي على مزاعم دينية وتاريخية تكون أكثر عرضة لهذا النوع من الأمراض التي تصيب، بمرور الوقت، جسد الدولة بحالة شلل تام، بحيث تكون عاجزة عن إنتاج حلول لمشاكلها فتنشد حلولاً من خارجها. فالدولة المؤدلجة يشيع فيها الفساد والمحسوبية والإثرة، بعكس الدول القائمة على أساس وظيفي، أي لتنظيم المصالح العمومية ودرء المفاسد بكافة أشكالها.

والسؤال هنا: ما هي نظرة الحاكم إلى المحكوم في بلادنا؟

نقل عن الملك فيصل قوله لأحد المتظلِّمين حين اشتكى له مصادرة أحد الأمراء لأرضه قوله (أنت وما تملك لنا) وتكررت المقولة على لسان ولي العهد ووزير الدفاع الأمير سلطان قبل سنوات قليلة حين تظلَّم له أحد المزارعين بعد أن ضُمّت مزرعته لمزرعة الأمير. إن مقولة (أنت وما تملك لنا) تحيل من المواطن وممتلكاته إلى مجرد عرض طارىء أو بضاعة منقولة يجوز للحاكم أن يفعل بها ما يشاء.

إن تأسيس الدولة على مبدأ الرعاية يجعلها مجرد محسن (وما على المحسنين من سبيل) ويزيل عنها صفة المسؤولية، وهذا ما ينفي، إبتداءً، وظيفة الدولة. فالحكومة تكون فوق الشبهة والمحاسبة حين ترى فيما تقوم به مجرد إحسان تجود به على من تسود، ويبدو أن هذه النزعة كانت شديدة في بداية نشأة الدولة السعودية حين كانت السلطة المؤسسة حديثاً بحاجة إلى جلب ثروات المناطق الأخرى لمكافأة الحلفاء في منطقة نجد وتأسيس السلطة المركزية كقاعدة لإنطلاق الدولة وتعزيز سلطانها في مركز النشأة وتالياً في المناطق الملحقة، إلا أن هذه النزعة أثارت وبدرجة كبيرة سخطاً في المناطق الأخرى، وكانت مثار إستهجان لدى من وجدوا أنفسهم ضحايا لوحدة لم يجنوا منها سوى الحصرم.

بدا واضحاً أن هناك تجاوزاً لمفاهيم الدولة الحديثة لدى الفئة الحاكمة، فالمواطنة كفمهوم حميمي متصل بنظرية الدولة والسلطة السياسية، يكاد يغيب من الثقافة السياسية، بل وفي أجندة السلطة، ويستعمل في الغالب للتعبير عن شيء محدد وهمي: المواطن الصالح هو الاكثر ولاء للسلطة الحاكمة، وهو إبتكار فريد يختزل مفهوم المواطنة إلى حد هدم مدلوله الحقيقي.

فالمواطنة بما تتضمن منظومة عناصر ومقتضيات تجعل من الولاء للسلطة مجرد إستجابة موضوعية لتحقق العناصر المقررة لمبدأ المواطنة. فالمواطنة في جانبها المدني تتكون من حقوق ضرورية للحريات الفردية، وفي جانبها السياسي من حق المشاركة في مزاولة السلطة عبر البرلمان ونظرائه، وأخيراً في جانبها الإجتماعي من الحق في الحصول على مستوى مقبول من الحياة ومن الميراث الإجتماعي للمجتمع.

هذه المواطنة، كما يعرّفها منظّرو الدولة تضع وبصورة مكثفة العناصر المتعارف عليها، ولا نحتاج إلى جهد كبير لعقد مقارنة بين المواطنة كمفهوم والسلوك العام للسلطة السياسية في مجال إختبار تحقق هذه العناصر، فالحريات الفردية تنفيها تقارير حقوق الإنسان بما حوت من إنتهاكات للحقوق الأساسية للمواطنين بما فيها حق الدفاع عن النفس، فضلاً عن انعدام حرية التعبير والإجتماع. وأما المشاركة السياسية، فالنضال متفاوت الوتيرة صعوداً وهبوطاً من أجل الحصول على الحد الأدنى من المشاركة السياسية، يكشف عنه ظهور أطراف وجماعات جديدة تولِّدها البيئة السياسية الضاغطة والأحداث السياسية المتلاحقة النازعة نحو فتح الأبواب المغلقة للسلطة.

بقيام الدولة السعودية إمتدت السلطة المركزية إلى كل المناطق التي أخضعت لسلطانها، ففي الوقت الذي تجمّعت سلطة القرار السياسي في المركز ـ الرياض، وسحبت معها السلطة الدينية من مكة المكرمة.. إنتقلت أعداد كبيرة من نجد لتمثل مركزية الدولة في المناطق المفتوحة، على قاعدة تقاسم الغنائم بين المنتصرين (النجديين). فإمارات المناطق، ومراكز الشرطة، والقضاة، ورجال الدين، وموظفو البيروقراطية الوليدة إنتقلوا من المركز إلى المناطق الجديدة، التي لم تكن خالية من الكفاءات، بل كان فيها أكبر مما لدى المركز نفسه. وهذا ما أعطى الإنتشار البيروقراطي للدولة صفة (الإحتلال الداخلي) عبر الإخضاع القسري المناطقي والمذهبي. وبقدر ما تعززت مركزية الدولة بتطوّر الإتصالات الحديثة، تقلّصت سلطة الإمارات التي يرأسها أمراء من آل سعود أو من الموالين المقرَّبين جداً من العائلة المالكة، وبقيت تمارس دوراً أمنياً بحتاً، وكأن وجود ممثّلي (نجد) في تلك المناطق شرط أساسي لاستمرار ذلك الخضوع القسري، الذي لم يتحوّل إلى خضوعٍ طوعي منذ قيام الدولة وحتى الآن.

وفي الوقت الذي تبدو فيه مبررات تمدد الدولة وسلطتها إلى كل الأنحاء مفهومة، رغم أن أدوات ذلك التمدد إتخذت أشكالاً تعسفيّة خارج النسق المتعارف عليه في الدول وبنائها، من جهة سيطرة الروح المناطقية واستفرادها بالسلطة والثروة، فإن هناك أمراً غالباً ما يتم تناسيه حين الحديث عن (الإندماج السياسي).

يفترض، من الناحية العملية، أن يرافق تمدد السلطة وحضور جهازها في المناطق المحتلة الأخرى، نسق معاكس يدمج القوى السياسية والمذهبية الأخرى في مركز السلطة نفسها، أي أن يكون هناك حضورٌ لكل المناطق في ماكينة الدولة في المركز ـ الرياض، وليس في المناطق فحسب. إن ذلك الأمر لو حدث، لأعطى صورة أفضل للدولة في نظر سكان المناطق، ولتحولت إلى دولة وطنية تتمتع بقدر كبير من الإحترام بين شعبها .

ما جرى عكس ذلك تماماً، فقد كانت عقلية الغزو التي سادت قبل نشأة الدولة حاكمة عليها حتى بعد ولادتها ومازالت، وهي ما ترسّخ ميول إغترابية لدى كل الفئات الواقعة خارج (القسمة). ولا غرابة، والحال هذه، أن تضمحل الحدود الفاصلة بين ماهي سلطة وماهي دولة وأخيراً ماهو وطن..وفي كل الأحوال، تبقى المفاهيم بلا معنى حال توحّدت مضامينها.

)المصدر(