الأربعاء، 10 أبريل 2013

ديوان المظالم والسقوط في الهاوية


بسم الله الرحمن الرحيم
ديوان المظالم والسقوط في الهاوية
الحلقة الأولى
الحمد لله الذي أمر بالقسط وحرَّم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرَّماً، والصلاة والسلام على من جاء بالحق وحَكَم بين الناس بالعدل، وبعد: ففي هذا الوقت الذي نستنشق فيه أزهار الربيع العربي ونستلذ رحيق الحرية، ولو لم يبدأ تطبيقها الفعلي وعملها الواقعي على الأرض إلا أن بصيصها الآتي من بعيد، وسناها المرتفع على أرض العرب، قد أحيا قلوبنا الميتة، ونفخ الروح في عقولنا المتكلّسة بسموم الليبرالية العربية المميتة والقومية المقيتة والتي قتلت الحرية بعد أن تبنّتها زوراً وبُهْتاناً، والمشوّهة بفعلِ مَن حيّدوا مَن يأمر بالمعروف والعدل وينهى عن المنكرِ والظلم فصرنا نعتقدُ أن رعاية الاستبداد والسكوت عن الظلم وعدم ردْع الظالم عن ظلمه ولو بكلمةِ حقٍّ أتت بها الشريعة المُنزلة من ربِّ السموات, هو جزءٌ من الشريعة حماها الله وطهّرها من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتشويه الجاهلين، وكلُّ من كان من مرتزقةِ البلاط فهو مشاركٌ في خنق الوعي وتشويه الكرامة العربية وتطعيمها بجينات سرطانية جعلت الفرْد العربي يحمل نقصاً في مناعته ضد الاستعمار الفكري والحياتي وقابلاً –لن أقول للاستحمار كما يقول شريعتي- بل أقول قابلاً للاستلاب من قِبل حكامه الذي اغتصبوا حياته وقتلوا روحه العربية الثائرة، فقدَّم لهم كرامته فوأدوها، وأعطاهم عقله فمسخوه، إلا أنَّه لا تزال في قلوبنا بذرة إيمان وقطرة كرامة تحيينا لنثور من أجل كرامتنا.
إلا أن مدن الملح القابعة في الخليج لا يزال أهل الشر فيها يعيثون فساداً وكأن الله خلقهم عميانا عن رؤية غيرهم وأعطاهم من السمع مرتين، فهم سماعون لمن يَنْهَبُهم، أكَّالون لحقوق رعاياهم.
ديوان المظالم.
قضاءُ المظالِم في الإسلام أنشئ لينظر في تعدّي الأمراء على الرعية وتعسّف الموظفين في أعمالهم الوظيفية المناطة بهم وكذا للنظر في دعاوى الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية.
وفي العصر الحديث أنشئ ديوان المظالم ليكون جهةً قضائية إدارية مستقلةً لينظر في الدعاوى التي تُقام ضد الحكومة ؛ سواء كان طعناً في قرار إداري أو دعوى لأجل عقد حكومي أو تظلماً من أعمال أحد الوزارات وغير ذلك مما هو مذكور في نظام القضاء ونظام ديوان المظالم.
ومنذ نشأة قضاء المظالم كان راعياً للحقيقة ، ومراعياً للعدالة ، وفاحصاً لـملائمة القرارات الإدارية ، ومانعاً لتعسّف ذوي النفوذ ، حتى أتى مَن لا يعجبه  قوة القضاء في وجه الفساد، لأن مبدأ استقلال القضاء يعني تقييد حريته في العبث والظلم.
البدايةعدم سماع الدعاوى ضد الأئمة والمؤذنين:
بداية التدخّل كانت بعد تحدث بعض الخطباء في أمور لا تحبّذها وزارة الداخلية لأنها تؤدي إلى حراك ثقافي وبشكلٍ تلقائي إلى رفع مستوى الوعي والإثراء المعرفي، مما يعني ارتفاع مستوى الحرية والنقاش الفكري/السياسي، وهذه هي العتبة الأولى للمطالب الشرعية والحقوقية والسياسية.
فقامت وزارة الداخلية –عن طريق وزارة الشؤون الإسلامية- عام 1423 – 1424هـ بعملية تمشيط واسعة أدت إلى فصل بعض الأئمة والمؤذنين دون اعتبارٍ لحقوقهم الوظيفية، مما جعل بعضَهم يتظلّم من ذلك، فأقاموا دعاوى قضائية أمام ديوان المظالم للطعن في القرار الإداري بفصله، مطالبين بإلغائه وإعادتهم، فقام ديوان المظالم بإعادة بعضهم ممن استُعْمِل التعسّف في فصْله،فماذا حدثّ؟!
دخل وزير الشؤون الإسلامية على "المسؤول" فقال له: "حنّا نفصلهم وابن فايز يرجّعهم" يقصد معالي الشيخ حمود الفايز رئيس ديوان المظالم، وبعدها صدر الأمر السامي رقم: 7/ب/58477 في 3/12/1424هـ بتأييد القرارات التي تَصدر ضد كل خطيب بفصله ، ومنع ديوان المظالم من سماع أي دعوى تقام ضد الوزارة في ذلك بناء على "أن الظروف الحالية تبرر اتخاذ إجراءات لمواجهة أساليب التحريض والتشويش والإثارة بما يُخالف المفهوم الصحيح لخطبة الجمعة، وتستوجب عدم التهاون في ذلك أو إعادة النظر أو التشكيك في الإجراءات التي يتخذها المسؤولون في الدولة بكافة مستوياتهم في هذا المجال" !!هذا بداية قانون الطوارئ غير المعلَن!
إلا أن بعض قضاة ديوان المظالم الشرفاء تنبّه لهذا الخطأ الفادح (وهو منع ديوان المظالم من سماع الدعاوى ضد القرارات الإدارية الصادرة من الوزراة) فصار يسمع الدعوى ضد الوزارة ويُصدر فيها حكمه بما يوافق القواعد القضائية المتبعة في ذلك، إلا أن الوزارة استنجدت مرةً أخرى بـ"المسؤول!" فصَدر الأمر السامي رقم (9337/م ب) في 13/11/1430هـ بالتأكيد على الأمر السابق باعتبار أن "ما تقرره الوزارة في الشأن يُعد منهياً للموضوع وغير قابلٍ للطعن، باعتباره قراراً يتوخَّى المصلحة الوطنية في شأنها الأمني، مما يُكسبه وصفاً سيادياً غير مشمول بضابط القرار الإداري، فالقرار الصادر في هذا الخصوص مناطٌ بسلطةٍ تقديرية تتغيّا المصلحة العليا للوطن، لا تطبيقاً لتراتيب نظامية تخضع بموجب نظام ديوان المظالم لمراقبة المشروعية". مما يعني إصدار الضوء الأخضر لكلّ وزارات الدول وأجهزتها للتعسّف والظلم والبغي، دون حمايةٍ من القضاء!!
إنا لله وإنا إليه راجعون ! ما تمارسه وزارة الشؤون الإسلامية –ظلماً- بفصل خطيب جمعة أو إمام مسجد يسمى قراراً سيادياً !!
نحن بهذا الأمر السامي تجاوزنا الدول البوليسية والديكتاتورية التي يُناط الظلم والبغي والتعسّف في الأجهزة الأمنية، ولكننا في السعودية أعطينا ذلك كلّها حتى للوزارات المعنية بالإرشاد والتوجيه، وأكسبنا أعمالها الوصف السيادي !!([1]) .
كيف سيؤدي الإمام و الخطيب وظيفته الشرعية بحق؟ ومَنْ سيُراقِب قرار الوزارة حينما تفصل أحد الأئمة بدعوى أمن الدولة وتحريضه ؟ وكيف سيتظلّم هذا الإمام أو الخطيب من هذا التعسف ؟
وإني أنبه وأحث أصحاب الفضيلة القضاة في المحاكم الإدارية بأن يُعْمِلوا ما تعلموه من أنّ هذه القرارات باطلة لمخالفتها أسس العدالة ومبادئ المشروعية، والقيام بالرقابة السلبية عليها وعدم إعمالها (رقابة الامتناع) خصوصاً إذا علمنا أن هذه الأوامر صدرت بصيغة (أمر سامي) يعني من خادم الحرمين الشريفين بصفته رئيساً للوزراء وللحكومة ، فقراراته قابلةٌ للطعن، وليس بصفته (ملكاً).

الخطوة الثانية: التأكيد على عدم سماع الدعاوى ضد قرارات الإمارة بتنفيذ أحكام لجنة تسوية المنازعات المصرفية:
لن أتطرق لنظامية هذه اللجنة ومدى مشروعية القرارات التي تصدرها، ولن أتطرق للانزعاج الشديد من قبل أهل العدالة خصوصاً والمواطنين عموماً، فالصحف ومواقع الانترنت والبحوث الأكاديمية تحّدثت عنها وعن عدم شرعيتها ومخالفتها لأبسط أسس حقوق المرافعات القضائية ومناكفتها لقواعد العدالة وضماناتها، فضلاً عن تشريعها لبعض الأحوال الربوية الصريحة كما هو مبيّن في مواضعه، وقد حاول ديوان المظالم أن يُصدر عدداً من الأحكام التي تقبل الطعن في قرارات هذه اللجنة أو على الأقل عدم اعتبار قراراتها فصلا في الموضوع، أو إيقاف تنفيذ قراراتها.
وأشهر هذه الأحكام حكمان، الأول هو آخر حكم كتبه معالي الشيخ إبراهيم الحقيل إبان عمله قاضياً في الدائرة التجارية الثانية وقبل أن يعين رئيساً للديوان وقد ألغى أي اعتبار لهذه اللجنة برمتها باعتبار أن ما تصدره من قرارات ليست لها أي صبغة قضائية بل هي هيئة صلح ليس إلا، ولكنه نُقِض.
أما الحكم الآخر فقد أصدره فضيلة الشيخ القاضي أحمد الجوفان، بعد أن تقدّم للمحكمة شخص يطلب إيقاف قرار الأمارة بإلزامه بتنفيذ قرار هذه اللجنة، فأصدر ديوان المظالم حكماً بإلغاء قرار الإمارة باعتبار أن هذه اللجنة لا تصدر قرارات قضائية وليست لها أية صبغة شرعية للفصل في النزاع إلا بصلحٍ يرتضيه الطرفان. وقد تم تأييد هذا الحكم من محكمة الاستئناف.
بعدها تقدمت الإمارة –بصفتها هي المنفذة لقرارات هذه اللجنة- للمقام السامي بطلب معالجة هذه المشكلة (والتي تمثلت في قيام الديوان بغلِّ يدِ الإمارة عن تنفيذ أحكام هذه اللجنة) فإن لم يتم حلها فإن الإمارة ستُحيل معاملات التنفيذ إلى القاضي التنفيذ في المحاكم العامة، والذي بطبيعة الحال لن يحكم بشرعيتها، فصدر الأمر السامي رقم 48033 في 23/10/1432هـ برعاية "البرمكي/الحاجب" بعدم اعتبار حكم ديوان المظالم، والاستمرار في تنفيذ قرارات هذه اللجنة غير الشرعية.
ومن المضحكات المبكيات أنه بعد صدور هذا الأمر السامي قامت محكمة الاستئناف بالعدول عن حكمها !! خوفاً من غضب "الحاجب"!
ثم صدر برعاية "الحاجب" الأمر البرقي الملكي رقم 37441 في 11/8/1433هـ بإعادة إنشاء وهيكلة اللجنة وإعطائها الصبغة شبه القضائية، ولا حاجة لنا في القضاء ولا إلى من يحتكم إلى القضاء، ولا حاجة إلى ضمانات العدالة!
بل صدر أمرٌ ملكي آخر برقم 51354 وتاريخ 29/11/1433هــ بتأكيد هذا الأمر!
وضُرِبَ بعرض الحائط بالمادة 49 من النظام الأساسي للحكم، والمادة 25 من نظام القضاء ، الذي نص على أن الفصل في كلِّ الخلافات هو من اختصاص القضاء وحده !
وهكذا مورس على ديوان المظالم وقضاته أسوأ أنواع التدخلات وهتك للاستقلال والقضاء على البقية الباقية من العدالة التي (كنَّا) نفتخر بها !!
وأصبحت المادة الأولى في نظام القضاء وديوان المظالم(القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية وليس لأحد التدخل في القضاء)...هي أكثر المواد خرقاً وانتهاكاً, وأكثرها لوكاً في وسائل الإعلام الرخيصة.
نسأل الله أن يُصلح حال قضائنا ، وأن يحفظ قضاتنا من تدخلات من لا يريد لهم الخير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
عبدالرحمن العبدالله – القاضي في ديوان المظالم


([1]) القرار السيادي في القضاء والقانون هو الذي يصدر من أعلى سلطة في البلاد [الملك لدينا] للمحافظة على كيان الدولة كإعلان الحرب والسلم أو قطع العلاقات مع الدول الأخرى، وغيرها، وهذه القرارات غير خاضعة للطعن أمام القضاء في بعض دول العالم ومنها السعودية، وبعض الدول لا ترى إعمال مبدأ (الأعمال السيادية) لأنها ثغرة في بناء المشروعية والعدالة، والبعض يتخفف منها فيجيز التعويض عنها دون الإلغاء.
المصدر