الجمعة، 8 مارس 2013

محاكم تفتيش جامعة الإمام / الجزء الأول



#محاكم–تفتيش جامعة-الإمام     (الجزء الأول)

بداية أشكر الإخوة على احتفائهم وتواصلهم وتقديمهم النصيحة في حكاية قصة كتاب التصرف في المال العام وسأعمل بها بإذن الله وأعتذر عن التأخر في نشر التغريدات لأسباب مختلفة ونظراً لطولها سأجعلها في جزأين.  

- أصل كتاب التصرف في المال العام رسالة ماجستير سجلت في قسم الفقه بكلية الشريعة في الرياض عام 1414هـ  ونوقشت وأجيزت عام 1418هـ بتقدير ممتاز.

- سجلت الرسالة في أجواء أمنية مشحونة بالغة الحساسية أفرزها حراك التيار الإصلاحي في السعودية الذي قام بتأسيس لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية وتصاعد الخطاب الدعوي الناقد لسياسات الحكومة الذي تزعمه المشايخ (العودة  الحوالي العمر) ومواجهة الحكومة له بالقمع أفضت إلى اعتقال أو فصل أعضاء لجنة الحقوق الشرعية ومن كان معهم من الوظائف الحكومية ثم خروج الدكتورين(المسعري والفقيه) خارج السعودية وتأسيس مكتب اللجنة في لندن.

- انتهيت من السنة التحضيرية بنهاية 1413هـ وبدأت خطوات تسجيل موضوع الرسالة وهو أكبر هاجس يؤرق طلاب الماجستير خاصة لشدة شروط التسجيل وتميز الكلية فاتجهت إلى قبلة الباحثين شيخي أ.د.عبدالله الركبان العالم الفقيه المدقق الحازم الشهم فناقشته حول الموضوعات وكنت متحمساً لتسجيل موضوع متميز كعادة طلاب الدراسات العليا فلم يكثر علي وقال ابحث في (التصرف في المال العام).

- كانت ألفاظ العنوان غريبة على الساحة العلمية فهي لا تكاد تجري على لسان ومع ذلك راقني الموضوع ولم يدر في خلدي العبء الأمني مع حضوره ولم أهتم أنني أضع مستقبلي العلمي والوظيفي على محك خطر جداً ولكي يخرج الشيخ من الحرج قال هذا الموضوع كثيراً ما عرضته على الطلاب فيعتذرون فقلت له أبشر سأعد خطته ثم أعرضها عليكم.

- أخذ إعدادها مني أربعة أشهر تقريبا ولما عرضت على مجلس القسم انتصر الشيخ لموضوعها وتحمس له فحظيت بموافقة المجلس وأسند الإشراف إلى الشيخ لما رأى حماسه، مما كان له أبلغ الأثر في قوتها ونجاتها من المصير الذي كاد بعضهم أن يقذفها فيه كما سيتبين لاحقاً.  

- بعد التسجيل بأشهر وقعت إحدى أهم فصول المواجهة التاريخية بين الحكومة والدعاة الناقدين وهي انتفاضة بريدة الشهيرة والتي انتهت باعتقال المشايخ الثلاثة (العودة،الحوالي،العمر)وغيرهم وبدأت بعدها ما سمي بـ (سياسة تجفيف منابع الفكر الصحوي) أدت مع الفراغ الدعوي باعتقال المشايخ إلى تراجع أو ركود صحوي داخلي بالغ.

- كانت جامعة الإمام الصرح العلمي الكبير محضن الصحوة الأهم ومرجعيتها الدعوية وجزءاً من مرجعيتها العلمية مما جعلها مرمى التضييق الأمني والتجفيف الصحوي فتوجهت الجهود إليها باسم محاربة الفكر الخارجي المزعوم المتمثل في ثنائية الإخوان والسرورية.

- كل من عادى فكر الصحوة وعلماءها ودعاتها صار محل التقريب والحفاوة وانهالت عليه المنح والتعيينات وفتحت له أبواب الصحافة والقنوات ووكلت إليه مهمة محاربة الفكر الخارجي المزعوم.

- من أشهر مواجهي فكر الصحوة آنذاك شخصان أذكرهما لعلاقتهما المؤثرة في رسالة التصرف، أحدهما خطيب وإعلامي بارز خصص غالب خطبه ونشاطه الإعلامي لتلك المواجهة، وعين عميداً لإحدى كليات جامعة الإمام، ثم توارى فجأة عن الأنظار في وقت مبكر لأسباب غير معلومة على وجه اليقين.

- والشخص الثاني أظهر فاعلية في هذه المواجهة حين عين عميداً لإحدى عمادات فرع جامعة الإمام في القصيم ثم مشرفاً على الفرع كله وتخصص في كتابة سلسلة مقالات في الشأن الأمني والمنهجي المضاد لفكر الصحوة عين في إثرها على منصب مهم في جامعة الإمام. 

- في هذه الأجواء الأمنية بدأت بكتابة الرسالة واسمحوا لي الآن أن أدخلكم في أجواء الرسالة: فهي تأصيل شرعي نادر لموضوع غاية في الأهمية والحساسية، لأنه من أعرق موضوعات السياسة الشرعية الغائب فقهها عن الواقع السعودي آنذاك، فإن أكبر ما وقع فيهما الفساد والأثرة في تاريخ المسلمين السلطة والمال العام.

- بالإضافة إلى الصعوبة الأمنية فللموضوع صعوبته التأصيلية فكثير من المباحث لم أجد فيها مراجع ولا مادة، وكان علي الرجوع مباشرة إلى أدلة الكتاب والسنة وشواهد السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين الثرية، وتخريج أحكام المال العام على المال الخاص خاصة مال المولى عليهم كمال اليتيم، ومال الوقف، ومال الشركاء، لكن ما هو أصعب تمثل في النتائج الحاسمة الصادمة التي توصل إليها الباحث وتخالف الواقع الذي يعيشه المسلمون بل ورضوا به حين اعتبروا المال العام أهم مكاسب وامتيازات السلطة، حتى أنه لا يمكن التفريق بينه وبين مال الحاكم.

- لذلك حرصت أشد الحرص على حشد الأدلة والآثار وبيان أوجه دلالتها وسياق نصوص الفقهاء المعتبرين لكل حرف أذكره في الرسالة مما كان له أثر سأعرفكموه في الجزء الثاني إن شاء الله.

- أستطيع القولل بأن الرسالة غيرتني على عدة مستويات: على مستوى الكتابة فقد كنت قبلها أعد خطبي تأليفاً لنقول من هنا وهناك، وبعدها أصبحت أنشؤها فكرة وعبارة، مما أكسبني دربة في الكتابة لم تكن لتتهيأ لي لولا ما عانيته من سبر وتقسيم وتوجيه وتحرير.

- وغيرتني على مستوى الوعي بروعة الدولة الإسلامية الأنموذج والتي كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين من الصحابة ومن بعدهم كعمر بن عبدالعزيز وغيره، وكنت أبلغ غاية التأثر وأنا أحرر وأقف على شواهد من عظمة تراثهم وسبقهم في تأسيس نظام سياسي غاية في الصلاح في إدارة شؤون الدولة ومنه العدل في قسم المال العام وتوزيع الثروة مع الورع التام والعلم، لم يتكرر حتى اليوم وفي أرقى ديموقراطيات العالم كلها. 

- وغيرتني بإدراك أن أمة المسلمين هي الأصيل التي خاطبها الله بإقامة الدولة وعقد البيعة ونصرة الحاكم وطاعته بالمعروف ومراقبته وأطره على الحق عند الزيغ وأن أفرادها شركاؤه في السلطة والمال لا يحل له أن يستبد بأمر دون مشورتهم، ولا يستأثر بمال عام عليهم ولو كان شراك نعل.      

- وغيرتني بإدراك مدى الانحراف في الحكومات الإسلامية والعربية خاصة عن الرشد في الحكم وأنها أبعد ما تكون عن مصطلح الحكومة الرشيدة المظلوم المستهلك، كما أبانت لي عظم جناية الاستبداد على مقدرات الأمة.

- وغيرتني بإدراك خطورة الفساد في المال العام وأنه ليس محصوراً في استئثار بعض أفراد على مجموع الأمة يمكن لهم أن يصبروا ويحتسبوا فلن يضيع عند الله شيء، وإنما يتجاوزه إلى بعثرة وهدر هائلين لمقدرات الأمة لا يمكن تعويضها والتي لو وجهت في حمل رسالة الدولة المسلمة داخليا وخارجيا لأثمرت عند دول العربية الغنية خاصة تقدماً ومكانة ورفعة وسؤدداً يصعب التكهن بمداه، بالإضافة إلى استمرار بقاء الدولة في حالة اضطراب وقلق يحولان دون السلم الاجتماعي.

- وغيرتني بوعي القصور العلمي في مسائل السياسة الشرعية والذي أوصل واقعنا إلى شيء مما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حين ينقلب المعروف منكراً والمنكر معروفاً، بتقرير مسائل تثير العجب في تحصين الحاكم من رقابة الأمة، كجعل النصيحة السرية طريقاً أوحد لمواجهة المجتمع لفساد السلطة، وتقرير الخروج بالكلمة، وإعطاء الحاكم المتغلب الناقص الأهلية جميع أحكام الحاكم المختار الكامل الأهلية، وقصر التسبب في إثارة الفتنة على إنكار الأمة دون خطايا السلطة....     

- وغيرتني بإدراك جناية السياسي المستبد المنحرف على العلم، وعلى أهل العلم (أعني من نتعبد الله بحبهم لعلمهم وزكائهم وسلامة طويتهم ونصحهم لا من جعل العلم سبيله للمطامع) بما يؤدي إلى اختلال الثقة فيهم وكفى به شراً، حين يضطرهم إلى الأخذ بالرخصة؛ اتقاء لفتنة خاصة أو عامة، فيقع الكثير من ترك المعروف وترك إنكار منكرات السلطة؛ خشية من وقوع فتنة، يترك بها معروف أكثر، أو يقع بها منكر أكبر.  

- وغيرتني بإدراك أن مجاملة المستبدين عمقت الانحراف في الاتجاهين الرأسي والأفقي، فجذرته ومدت رواقه على خلاف ما أراده المجاملون، حتى كأنما هو قدر لا يمكننا الانفكاك منه، أو لا ينبغي لنا، وأدركت أنه ما من سبيل آخر غير مواجهة الانحراف في السلطة بالطرق السلمية المشروعة.

يتبع الجزء الثاني وفيه بداية المحنة (محنة الرسالة) وغرائب سأرويها لكم بإذن الله.
(المصدر)